تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 486 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 486

486 : تفسير الصفحة رقم 486 من القرآن الكريم

** ذَلِكَ الّذِي يُبَشّرُ اللّهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَىَ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَىَ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات, لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به. وقوله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوساً يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى إلا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد فقال ابن عباس: عجلت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن لا تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة, انفرد به البخاري, ورواه الإمام أحمد بن يحيى القطان عن شعبة به, وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله, وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هاشم بن القاسم بن زيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا: حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم» وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى, حدثنا قزعة يعني ابن سويد بن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله وأن تقربوا إليه بطاعته» وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم.
وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن ؟ قال: نعم, قال: أقرأت آل حم ؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم, قال: ما قرأت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} قال: وإنكم لأنتم هم ؟ قال: نعم, وقال أبو إسحق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فقال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم رواهما ابن جرير.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا عبد السلام, حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا, فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما ـ شك عبد السلام ـ لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟» قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟» قالوا: بلى يا رسول الله, قال: «أفلا تجيبوني ؟» قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: «ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك أولم يكذبوك فصدقناك أولم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب, وقالوا: أموالنا في أيدينا لله ولرسوله, قال: فنزلت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبدالمؤمن بن علي, عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريباً منه. وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الاَية, وذكر نزولها في المدينة فيه نظر لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الاَية وهذا السياق مناسبة, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا رجل سماه, حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: لما نزلت هذه الاَية {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} قالوا: يا رسول الله, من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال: «فاطمة وولدها رضي الله عنهما» وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل, وذكر نزول الاَية في المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير هذه الاَية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم, فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً, ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية, كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي, وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض» وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن, وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها, قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله».
ثم قال أحمد: حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب بن ربيعة, قال: دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث, فإذا رأونا سكتوا, فغضب رسول الله ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يدخل قلب امرىء مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي», وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب, حدثنا خالد, حدثنا شعبة عن واقد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر ـ هو الصديق ـ رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي, وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم, لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك, ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي, حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه, فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً, رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه, لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً, حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه, ثم قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة, فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ, ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما بعد, أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب, وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلى الله عليه وسلم: «وأهل بيتي أذكركم في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده, قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم, قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة ؟ قال: نعم, وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حيّان به.
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن المنذر الكوفي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الاَخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض, والاَخر عترة أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» تفرد بروايته ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي أيضاً: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي, حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب, فسمعته يقول: «ياأيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» تفرد به الترمذي أيضاً, وقال: حسن غريب, وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم.
ثم قال الترمذي أيضاً: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث, حدثنا يحيى بن معين, حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي, عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه, وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي» ثم قال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه, وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير} بما أغنى عن إعادتها ههنا, و لله الحمد والمنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا مفضل بن عبد الله عن أبي إسحاق عن حنش, قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني, ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام من دخلها نجا, ومن تخلف عنها هلك» هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله عز وجل: {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسن} أي ومن يعمل حسنة نزد له فيها حسناً أي أجراً وثواباً, كقوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أَجراً عظيم}, وقال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها, ومن جزاء السيئة السيئة بعدها. وقوله تعالى: {إن الله غفور شكور} أي يغفر الكثير من السيئات ويكثر القليل من الحسنات, فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر, وقوله جل وعلا: {أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك} أي لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون {يختم على قلبك} أي يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن, كقوله جل جلاله: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} أي لا نتقمنا منه أشد الانتقام, وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
وقوله جلت عظمته: {ويمح الله الباطل} ليس معطوفاً على قوله {يختم} فيكون مجزوماً بل هو مرفوع على الابتداء. قاله ابن جرير, قال: وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام, كما حذفت في قوله: {سندع الزبانية} وقوله تعالى: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير}. وقوله عز وجل {ويحق الحق بكلماته} معطوف على {ويمح الله الباطل ويحق الحق} أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته, أي بحججه وبراهينه {إنه عليم بذات الصدور} أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.

** وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرْضِ وَلَـَكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مّا يَشَآءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ * وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ
يقول تعالى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه أنه من كرمه وحلمه أن يعفو ويصفح ويستر ويغفر, وكقوله عز وجل: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه, حيث قال: حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا: حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عكرمة بن عمار, حدثنا إسحاق بن أبي طلحة, حدثني أنس بن مالك, وهو عمه رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته, فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده, فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح». وقد ثبت أيضاً في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري في قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} إن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان يخاف أن يقتله فيه العطش» وقال همام بن الحارث: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال: لا بأس به, وقرأ {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} الاَية, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي, عن همام فذكره, وقوله عز وجل: {ويعفو عن السيئات} أي يقبل التوبة في المستقبل, ويعفو عن السيئات في الماضي {ويعلم ما تفعلون} أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على من تاب إليه.
وقوله تعالى: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال السدي: يعني يستجيب لهم, وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم, وحكاه عن بعض النحاة, وأنه جعلها كقوله عز وجل: {فاستجاب لهم ربهم} ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة, عن سلمة بن سبرة)قال: خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام, فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة, والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا عمل له ـ يعني أحدهم عملاً قال: أحسنت رحمك الله, أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله}.
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل قوله: {الذين يستمعون القول} أي هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون, والموتى يبعثهم الله} والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} أي يستجيب دعاءهم فوق ذلك. ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا بقية, حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} قال «الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفاً في الدنيا» وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله عز وجل: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال: يشفعون في إخوانهم {ويزيدهم من فضله} قال: يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله عز وجل {والكافرون لهم عذاب شديد} لما ذكر المؤمنين ومالهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين ومالهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
وقوله تعالى: {ولوبسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً.
وقال قتادة: كان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك, وذكر قتادة «إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا» وسؤال السائل: أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث. وقوله عز وجل: {ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».
وقوله تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطو} أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عز وجل: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} وقوله جل جلاله: {وينشر رحمته} أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس. فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم ثم قرأ {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.

** وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثّ فِيهِمَا مِن دَآبّةٍ وَهُوَ عَلَىَ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ
يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر {خلق السموات والأرض وما بث فيهم} أي ذرأ فيهما في السموات والأرض {من دابة} وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض {وهو} مع هذا كله {على جمعهم إذا يشاء قدير} أي يوم القيامة يجمع الأولين والاَخرين وسائرالخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم {ويعفو عن كثير} أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} وفي الحديث الصحيح «والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها». وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر, فقال: «أرأيت ما رأيت مما تكره, فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة» وقال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال والأول أصح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل, وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير, وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الاَخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه» وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي رضي الله عنه فذكر نحوه مرفوعاً.
ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفاً فقال: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ قال: فسألناه فتلا هذه الاَية {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود عفوه يوم القيامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته} وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} قال لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم إنا لنبأس لك لما نرى فيك, قال فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الاَية {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
وحدثنا أبي, حدثنا يحيى بن الحميد الحماني, حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال فبذنوب والديك. وحدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.